تخطى إلى المحتوى

«الوطن» تكشف فى تحقيق استقصائى: مخلل مسرطن على موائد المصريين 2024.


عاملة تخلى الزيتون
وراء عربة كارو، على جانب الطريق فى إحدى أسواق القاهرة الشعبية، يقف أحمد على، شاب لا يتجاوز 30 عاما، يعرض بضاعته على المارة: زيتون مخلل، أخضر وأسود «مشكل» بألوان عديدة تجذب الزبائن. عشرات المارة والمتسوقين يتوافدون على العربة، وهم مبتسمون وفرحون بقدوم شهر رمضان المعظم، الذى يرتبط فى أذهان المصريين بضرورة توافر المخلل على مائدة الإفطار، لكن أحمد وزبائنه لا يعلمون الرحلة الطويلة التى مرت بها تلك المخللات، حتى وصلت إليهم «مسممة» وتسبب الإصابة
بأمراض السرطان.

اثناء تحليل عينات الزيتون
«الوطن» خاضت المغامرة فى دهاليز معامل بير السلم، وبين أباطرة صناعة الطرشى الشعبية، لنكشف جريمة تقتل المصريين بسموم بطيئة المفعول، ونضع الملف برمته بين يدى الرأى العام والأجهزة الرقابية والحكومة.

صبغة ورنيش احذية باحد المعامل
البداية كانت باتصال هاتفى تلقته الجريدة من وليد الحريف، أحد أصحاب معامل المخلل بميدان السيدة زينب، مفادها إخبارنا بطرف خيط تلك القضية، وهو وجود معامل ومصانع مخلل تستخدم مواد محظورة وتسبب أمراضا قاتلة، وتضيف صبغة ملابس وورنيش أحذية على المخلل لتلوينه، بجانب إضافة مواد كيميائية أخرى تسرع إنضاجه.
الدافع الوحيد لوليد هو منع الخطر عن الناس، فـ«الساكت عن الحق شيطان أخرس» حسبما يقول.
وما إن التقطنا المعلومة «مجردة» حتى سارعنا إلى التنقيب عن أوكار صناعة تلك السموم؛ فصاحب معمل «الطرشى» لم يذكر أماكن بعينها تمارس تلك المخالفات، أو أشخاصا يتاجرون فى هذه النوعية من المخلل، لكنه كشف لنا عن سمات عامة لذلك المخلل الفاسد، دفعتنا إلى رحلة بحث عشوائية عنه، وفق تلك المواصفات، بالأماكن الشعبية.
وبعد جولات بحث عديدة فى مناطق فيصل والموسكى والعتبة والسيدة زينب وأحياء عديدة بالقاهرة، تمكنّا من التوصل لخيوط القضية، ومن خلال البحث والتقصى تعرفنا على معامل طرشى عديدة، لكن بقيت الأزمة قائمة، وهى دخول موطن «الجريمة»، وبعد معاناة تمكنّا من ذلك ونرصد هنا تفاصيله..
بين حارات ضيقة وأزقة متعرجة، فى مكان يبدو عليه طابع الأصالة والقدم، يمارس نشاط بيع الجملة والقطاعى منذ عام 1940 كما توضح اللافتة التى تعلوه، واجهته راقية للغاية، يوجد أحد المعامل التى يُصبغ فيها الزيتون بالورنيش، ويبدو لمن ينظر إليه للوهلة الأولى أنه معمل نظيف جدا، بمجرد دخول المعمل، نكتشف وجود باب خلفى، يخفى وراءه مشاهد مفزعة، حوائط عشش فيها العنكبوت، وبراميل خشبية عفى عليها الزمن، مفتوحة ومعرضة للهواء، تبرز من فوهة كل برميل آثار تعفن، وأرضيات خرسانية تملأها الفطريات.
تجلس إحدى العاملات وراء منضدة خشبية نخرها السوس، منغمسة فى عملها اليومى، وهو إخلاء حبات الزيتون الأسود من البذور بآلة حديدية أكلها الصدأ الذى يتساقط على شرائح الزيتون المقطع، لا يشغلها مدى خطورة ما تقطعه على صحة الناس، بقدر حرصها على إنجاز أكبر كمية زيتون، حتى تحصل فى نهاية اليوم على يومية كبيرة؛ لأنها تعمل بالإنتاج.
وبينما العاملة فى غاية تركيزها، ردت على سؤال «الوطن»: الزيتون اللى بتقطعيه ده شكله جميل.. هو كان أخضر؟ وقالت بسرعة وتلقائية: «آه كان أخضر، بس إحنا بنصبغه اسود عشان الاسود عليه الطلب».
حاولنا معها استيضاح كيفية صباغة الزيتون، فأجابت، وهى تتلفت حولها، خوفا من وجود صاحب المعمل، وقالت: «بيتنقع فى ميه سخنة، وبيتصبغ بورنيش جزم، وبيتحط عليه بوتاس، عشان يطيبه ويثبت اللون، وبعد كدا بنغسله جامد بالميه عشان ميتعبش الناس ويضر صحتهم».
تفكير العاملة البسيطة دفعها لاعتقاد أن الصبغة التى تبقى على جسم الزيتونة الخارجية لا تؤثر على صحة الناس ولا صحتها أثناء العمل فى نزع بذور الزيتون دون لبس قفازات فى يديها.
بالبحث تبين لنا أيضا وجود معمل آخر فى منطقة فيصل، فى الجيزة، ولم نتمكن من دخوله، لكننا رأينا منتجه النهائى يباع فى الأسواق الشعبية؛ حيث يخفى صاحب المعمل الزيتون فى منزله ويخرجه عن البيع والتعبئة لخلطه فى المخلل المشكل أو يبيعه منفردا، ويخرج على سيارات النقل مباشرة إلى الأقاليم والأسواق الشعبية.
ليس صعبا أن تكتشف أن هذا الزيتون مصبوغ بورنيش أحذية أو بصبغة ملابس؛ فالمواصفة القياسية المصرية الخاصة بزيتون المائدة رقم 1636 لعام 2024 تشترط أن يكون لون الزيتون الخارجى مماثلا للون أنسجته الداخلية؛ لأنه إذا كان خلاف ذلك يصبح مصبوغا.
وتؤكد الدكتورة لبنى هريدى، رئيسة بحوث قسم الحاصلات ومتخصصة بالتخليل بمعهد تكنولوجيا التغذية، أن المعهد حلل عينات عديدة من الزيتون والمخلل الموجود بالأسواق واكتشف وجود «توكسينات» مسرطنة، بسبب وجود إضافات لألوان صناعية غير صحية وتسبب أمراضا بالغة للمستهلك.
ويضيف الدكتور هشام الخياط، أستاذ الكبد والجهاز الهضمى بمعهد تيودور بلهارس، أن الورنيش يحتوى على مادة «النيتروبنزيدين»، وهى مادة شديدة السمية، وتصيب بالسرطان على المدى الطويل من تناول المخللات. وإزاء تلك المعلومات المهمة، تجولنا فى الأسواق الشعبية، فاكتشفنا أن أغلب ما يباع فيها من زيتون أسود يكون مصبوغا بالورنيش، مخلوطا بالمخلل العادى «مخلل مشكل»، والكارثة الأخطر التى رصدناها هى وجود متاجر شهيرة بالقاهرة تشترى المخلل من تلك المعامل، لرخص ثمن منتجاتها، مقارنة بما يباع من منتجات أخرى عالية الجودة.
وداخل أحد تلك المتاجر الكبيرة، رصدنا أيضا أنواعا لا تُحصى من الزيتون المخلل المصبوغ بورنيش الأحذية، ومخللات مشكلة بها الزيتون، وألوانا صناعية غريبة غير مصرح بها، داخل «فاترينة» عرض المنتجات، فى مكان جذاب، يبدو للمستهلكين أنه معقم وليس ضارا.
ويوضح الدكتور حمدى على، أستاذ الزيتون بمعهد تكنولوجيا الأغذية، أن هناك طريقة جديدة معتمدة دوليا لتحويل الزيتون من اللون الأخضر إلى الأسود، دون استخدام ألوان صناعية، لكن لا يستطيع أحد من أصحاب المعامل الشعبية استخدامها؛ لأنها طريقة حديثة جدا؛ بحيث يجرى تمرير الأكسجين بطريقة معينة وفى ظروف محددة لتغيير لون الزيتون، ولا يباع الزيتون فى الشكل السائب، ولا بد من وضعه فى محاليل معينة، وإذا حاول أصحاب المعامل تقليدها، يصبح ما ينتجونه خطيرا جدا.
ويضيف: «تكلفة تحويل الزيتون الصحية أعلى بكثير من صباغته؛ لذا يصنعه كثير من المعامل على أنه أسود محول، والكارثة أنهم بعد صباغته يضعونه مع باقى المخلل المشكل، فتنتقل السموم إلى أنواع المخلل الأخرى».
الأدهى من ذلك أنه عندما سحبنا 3 عينات من المصنعين اللذين دخلناهما، وحفظناها فى ظروف صحية، حتى لا تتغير خواصها ولا تتعرض للتلف، وأرسلناها إلى المعامل المركزية لوزارة الصحة، للكشف عن وجود ألوان صناعية، أو صبغات تلون الزيتون، أو مواد كيميائية، كانت النتيجة أنه «لم يستدل على وجود ألوان صناعية، والعينة خالية من علامات التلف».
العينات نفسها أرسلناها إلى معامل معهد تكنولوجيا الأغذية التابع لوزارة الزراعة، فأثبتت النتائج وجود ألوان غير صحية، بجانب أنواع كثيرة من البكتيريا والفطريات السامة التى تسبب تسمما غذائيا.
وتوضح الدكتورة مى مجدى، الباحثة التى أجرت تحليلا للعينات، أنها اكتشفت وجود أنواع كثيرة من البكتيريا والفطريات المحبة للملوحة التى لا يقضى عليها الملح؛ لأنها تتعايش فى المواد الملحية، وتفرز سموما فى الغذاء، يتناولها المستهلك، وتسبب له تسمما غذائيا.
لم تقتصر بيئة المخلل غير الصحية على صباغة الزيتون؛ بل امتدت إلى استخدام براميل بلاستيكية مستعملة، بها متبقيات مواد كيميائية خطيرة؛ لأنها أكثر متانة وعمرها الافتراضى أطول من البراميل الجديدة، ورصدت «الوطن» مكان بيع هذه البراميل بمنطقة منشية ناصر، حيث تجارة البراميل المستعملة؛ فهى سلعة رائجة هناك، وتباع دون أى قيود أو اشتراطات أو رقابة.
وأكدت الدكتورة سناء صبحى حسن، أستاذة كيمياء التعبئة والتغليف، أن تلك البراميل المستعملة شديدة الخطورة؛ حيث تنفذ متبقيات المواد الكيميائية إلى محلول المخلل، وتتغلغل فى أنسجته لتخزينه فترة طويلة، ومن يتناوله على فترات طويلة قد يصاب بفشل كبدى أو كلوى، ويصل الأمر إلى الإصابة بسرطان بالمعدة. وأضافت: «حتى تعبئة المخلل فى أكياس أو علب بلاستيكية يعتبر ضارا جدا، ويعرض للإصابة بأمراض خطيرة؛ لأن مواد التغليف مصنوعة من بولميرات، ومن خصائصها أنها تهاجر وتتفاعل مع الغذاء».
الخطير أيضا استخدام بعض الصناع بالمعامل الشعبية ملحا صناعيا، اسمه الدارج «ملح السياحات»، وهو نوع خطير جدا من الملح، يسبب أمراضا بالجهاز الهضمى، تصل إلى حد الإصابة بالفشل الكلوى والكبدى، وهو ما أكده لنا الدكتور أحمد عباس، رئيس قطاع الرقابة على التجارة الداخلية بوزارة التموين، قائلا: «هناك بعض مصانع الطرشى تستخدم ملحا صناعيا وتضع عليه مادة الجير الأبيض لتوهم الناس بأنه نقى، وتم ضبط بعض المخالفين من أصحاب مصانع المخلل يستخدمونه».
وفى مدينة وادى النطرون، كانت الصورة مختلفة فى مصانع المخلل الحاصلة على علامات جودة.. هناك رصدنا طرق صناعة المخلل فى أجواء صحية، تبدأ بالزراعة، وتنتهى بالتخزين تحت الأرض، بعيدا عن عوامل الجو، ولا تتعرض للهواء وتجرى عملية التخليل فى معمل متخصص فى قياس نسبة الأملاح والشوائب والبكتيريا، وصناعة لا تتدخل فيها أيدى العمال سوى فى مراحل قليلة.
ويوضح ضياء مرعى، مدير المصنع، أن الناس اعتادت على شراء المخللات من المعامل، ومن البائعين الجائلين بالشارع، دون علم بخطورتها، وهذه الصناعة لها كثير من المخالفات، وهم يضيفون معجلات لإنضاج المخلل، كما يحفظونه فى براميل مفتوحة.
ويرى «مرعى» أن حجم الصناعة الضارة أصبح المسيطر على الأسواق المصرية الشعبية التى يُقبل عليها ملايين المصريين، ويجب على الجهات الرقابية أن تقضى على ظاهرة المنتجات الغذائية السامة والمسرطنة.
ويبقى لغز غامض فى عملية بيع المخلل المسرطن، هو عدم قيام الأجهزة الرقابية بالقضاء على تلك المخالفات. أصحاب مصانع الطرشى يؤكدون أن المفتشين يحصلون على رشوة مقابل عدم تحرير محاضر لهم، ويؤكد الحاج ناصر يحيى، صاحب معمل للمخللات، أن أغلب مفتشى وزارة الصحة أو التموين يهددون بتحرير محاضر إذا لم يدفع أصحاب المعامل رشاوى لهم، قائلا: «المحضر بـ10 آلاف جنيه، أو سنة سجن، أنا بدفع ألف جنيه للمفتش وبريح دماغى».
ويختلف الدكتور أحمد عباس، رئيس قطاع التجارة الداخلية بوزارة التموين والتجارة الداخلية، مع كلام صاحب المعمل، قائلا: «إحنا اللى بيرتشى عندنا بنعاقبه، ومفيش مرتشين بيفضلوا فى مناصبهم». ويضيف: «ميزة الرقابة فى مصر أنها موزعة بين عدة جهات، كالصحة والتموين والداخلية ووزارات التجارة والصناعة والبيئة، وهذا لا يعطى حرية للمخالف؛ لأنه لو أفلت من تفتيش جهة لن يفلت من الأخرى، لكن لو كانت جهة واحدة ممكن أى حد يشتريها بالرشوة». وقال الدكتور عبدالعظيم عبدالرازق، مدير الإدارة العامة للرقابة على الأغذية السابق: «إن القانون ينص على تنفيذ التفتيش والرقابة بين وزارة الصحة والتموين والتجارة والداخلية، وهذا يؤدى إلى حدوث تضارب فى التنفيذ»، ويرى ضرورة توحيد جميع الأجهزة الرقابية تحت لواء جهاز واحد يقوم بالرقابة على جميع المنتجات.
وانتقد عبدالرازق عدم تأهيل مفتشى وزارة الصحة، قائلا: «المفتش حاصل على مؤهل متوسط، ولا يدرس إلا مادة واحدة تتعلق بعلوم الأغذية؛ لذا يخرج غير ملم بالأبعاد الصحية لما يقوم بالتفتيش عليه؛ لذا اقترح أن تقام كلية خاصة بعلوم الأغذية، يلتحق بها المفتشون، كى تزيد من قدراتهم». ويضيف: «لدينا 6 آلاف مفتش فقط، وهذا عدد صغير جدا، مقارنة ببعض الدول، كما أن رواتبهم قليلة، وتجب زيادتها».


نور المختار نور المختار 698493_3.gif فتكات نشيطة Fatakat 698493 القاهرة – مصر

سبحان الله و بحمده

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.