وقفات
﴿ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ﴾
قال الله – عز وجل -: ﴿ قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ﴾ [غافر: 29].
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله محمد، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فما من شك أن الجميع يعرفون أن هذه الآية الكريمة، حكى الله – عز وجل – فيها قول فرعون في إحدى تلك الحلقات التي كانت تبث من مؤتمرات الاستخفاف خاصته، والتي وجه خطابه فيها هذه المرة لقومه، وهو يتلبس فيه لباس المخلص لهم، الساعي لمصلحتهم، الحريص على ما ينفعهم، والذي يبتغي هدايتهم، ويعمل على نصرتهم، ولذلك ادعى أنه لم يقل هذا القول؛ إلا لأنه يراه صوابًا، ويعتقده نافعًا، وهاديًا إلى الرشاد. وهذا القول أو الشعار في الحقيقة، قد جمع جملة من الأمور المتناقضة، والمتصادمة، ما يجعلك تحار معها، وتتسأل هل تسميها طوامًا
وأوابد، أم غرائب وعجائب؟! ولذلك أردنا أن نسرد شيئًا منها في هذ الوقفات، فنقول:
الوقفة الأولى: أن هذا الشعار وهذه المقولة التي تنضح بالفكر القمعي، والمتسلط المستبد، والتي تنبعث منها رائحة الأنا الغاشمة، والدكتاتورية البائسة، ويحفها الكبر والغرور، ويلفها العنف والنفور، هي سياسة يتبناها دومًا الطغاة، ويمتطي صهوتها الجبابرة العتاه، وهم معجبون بوسمها ورسمها كيفما كان! ويلقنوها لأبنائهم السذج، وتلامذتهم الهمج، ممن هم على شاكلتهم، والنتيجة سيأتي الإشارة إليها لاحقًا في ختام كلامنا.
ومن أغرب ما رأيت في هذا الباب ووقفت عليه، مما وصل به الحال بهؤلاء – وهو كثير كما لا يخفى – ما ذكره الجاحظ في البيان والتبيين[1]، قال: خطب عدي بن زياد الإيادي[2] فقال: أقول كما قال العبد الصالح: ﴿ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ﴾، فقالوا له: ليس هذا من قول عبد صالح، إنما هو من قول فرعون. فقال: من قاله فقد أحسن".
فانظر إلى أي مدى بلغ الوضع بهم، لتزداد عجبًا وتعجبًا. ثم تأمل كيف يجمع الطغاة إلى باطلهم، وقهرهم وقمعهم، جهلهم بكتاب الله – عز وجل!
ولذلك فإن هذه السياسة القمعية والمتسلطة هدفها – في الدرجة الأولى – دغدغة مشاعر الجماهير، بصورة عجيبة، تجمع إلى ذلك سخرية لاذعة، محفوفة بجهل وتجهيل خطيرين، وهي إلى ذلك تخفي في باطنها الهدف الحقيقي وهو: أنها تسعى لمنع كل فكر وإبداع، يخالف ما هي عليه من الباطل، فلا صرير فيها لقلم حر، ولا لصوت يحمل الحق، ولا لهتاف نزيه، بل للأقلام الهابطة، والأصوات الفاجرة، والقيم المتدنية، وكل ما من شأنه أن يلهج بذكرها، ويسبح بحمدها، ليلًا ونهارًا، وسرًا وإعلانًا.
وهي سياسة لا تملك تجاهها – حقًا – إلا أن تقول: ما قاله موسى – عليه السلام-: ﴿ إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ ﴾ [ غافر:27].
الوقفة الثانية:
أن هذه المقالة ترفض النظر إلى الأمور، وما تحمله في طياتها من نظرة جادة أو هادفة، بل هي ترسم فكرًا مخيفًا – سطحيًا – تجاه المخالف، ومع هذا فلا تتوانى أن تسمه بميسم من نار، وتشعل له الحرائق، وتنصب له المشانق، على طول هذا الطريق. وقد جعلت – هذه السياسة – الكثيرين طوال التاريخ البشري يعانون من تجاهلهم وقمعهم، واجتياح بلادهم، واستحلال دمائهم ونسائهم، كل هذا من أجل الحجر على العقول والآراء، وتكميم الأفواه؛ حتى لا تنطق بالحق والهدى.
الوقفة الثالثة:
أن هذه المقولة أسست وأرست القواعد، ودونت الأصول، ووضعت الضوابط والأطر العامة، والتي شكلت – بمجموعها – الأسس للطرق التي تسير فيها خطابات الغطرسة والجبروت والظلم، ولما بات يعرف اليوم: بوجهة نظر سيكولوجية أحادية الرؤية.
وهي تسير وفق خط بياني يبدأ منها وينطلق؛ ليصور ويرسم بعد ذلك صراع الخير والشر، والتي تكاد تكون واحدة، ونجد لها شبيهات وأخوات وإن اختلفت الشخصيات، أو اتخذت منحى مختلفًا بين الحين والأخر في شيء من تفاصيلها، لكنها جميعًا تصب في قصة صراع الحريّة مع الطغيان.
فهو في الحقيقة – أعني: فرعون الكافر – قد سن سنة سيئة – شعر أو لم يشعر، وقصد أو لم يقصد – فله وزرها، وهو حامل – بإذن الله – وزر كل من عمل بها إلى يوم القيامة.
الوقفة الرابعة:
أنها – وفي نظري على الأقل – شكلت أول ظهور لنظرية فلسفية، باتت تعرف في ما بعد بالنظرية الفرعونية، وتمكنت هذه النظرية إلى حد ما من تشكيل ماهية رؤية الظالم الدكتاتوري، المتلبس بلباس النصح! وبيان وإلى حد ما – أيضًا – طرق نظريات القمع في تشكيلها، وفي أدائها لقمعها، وكيف يلبسها أهلها ثياب الرشاد والرشد؛ لتكون موازرة لما يراه؛ ولتشكل عند ذلك وبعده واقعًا افتراضيًا مهمًّا، ينطلقون عنه، ويريدون منه أن يكون متكئًا إلى واقع حقيقي، في نفس الوقت، لكن هيهات.
الوقفة الخامسة:
أن هذه النظرية الإبليسية والسياسة، الفرعونية تطمع وتطمح وتهدف – معًا وفي آن واحد – إلى زوال الخير من العالم كله، وترى أن الذي يجب أن يبقى ويسيطر عليه هو الشر وحده، ووحده إلى الأبد. وهيهات هيهات، فالأمر ﴿ لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ ﴾ [النساء: 123]. وليأتي لنا الظلمة وأعوانهم، وأزلامهم وأتباعهم مجتمعين بصورة واحدة على مر صفحات التاريخ المسطورة، وكتبه المزبورة، بأنه زال الخير، وبقي الظلم مسيطرًا حتى تلاشى الخير نهائيًا. على أنهم حتى ولو وجدوا – تنزلًا – فأي شيء هذا الذي ذكروه، سيكون بجانب تلك آلاف وآلاف من الصور المخالفة والمناقضة لها، والتي باتت لكثرتها، قاعدة، بل هي سنة من سنن الله الكونية والشرعية، فأي شيء سيكون ما ذكروه بجانب هذا.
ولقد علمنا التاريخ – فضلًا عن ما ورد في الشرع من أن العاقبة للمتقين، والبقاء لهذا الدين – أن هذه السياسة الفرعونية الشديد القسوة، قبيحة المنظر، شديدة الدمامة، والحريصة على الظلم: يجب أن تُدمّر وتُداس وتنتهي ولا بد في يوم ما، وما تلبث أن تقوم على أنقاضها، وفي إثرها: معالم حياة جديدة، نقيّةً تغير العالم، وتعيد بنائه وصوغه من جديد. وهذا الانكسار والخيبة هما نتاج ونتيجة سياسة: ﴿ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى ﴾.
الوقفة السادسة:
أن هذا النظام الفرعوني الكهنوتي كان أول نظام يسطر هذا القانون المأفون، بهذه الصورة – فيما أعلم – قانون: ﴿ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى ﴾. ويضمه إلى قانون العقوبات الوضعية، والتي لا تمت إلى الشريعة بصلة، ويجعل فكرة: (تداول الرأي، واختلاف وجهات النظر …) جريمة منكرة يعاقب عليها القانون، ويعد كل من قال بها خائن مارق! يستحق أن يسجن أو يعذب…
الوقفة السابعة:
أن الدكتاتوري أو الظالم المستبد قد يملك ما يؤهله ليكون منطيقًا متكلمًا، يمتلك الأذان ببراعة خطابه وتدليسه، ويأسر الأسماع ويشنفها بكلامه وتلبيسه، لكنه – ينسى أو يتناسى – وأحلاهما مر -: أنه لن يملك أبدًا السيطرة على القلوب والعقول والأفكار، إذا ما لاحت الحقائق وأقبلت ركائبه، وتبدى الهدى وقدمت جحافله. وتدفق سيل الإيمان وأسفر صبحه، وهذا ما حصل مع فرعون يوم وقف بوجه موسى – عليه السلام. واللبيب من اعتبر!
واقرأ معي أيه الأخ القارئ، وأنت أيته الأخت القارئة، بحضور قلب، وأنت أيه الدكتاتوري! علها تكفيك عن كل موعظة وعبرة؛ لنقرأ جميعًا هذه الآيات من كلام الله – عز وجل – ووالله وبالله وتالله إنه لكلام تقشعر منه الجلود، قال الله – عز وجل -: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ العِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ المِهَادُ ﴾.[البقرة: 204- 206].
الوقفة الثامنة:
أن هذا القمع السياسي الفرعوني، والذي مُورس ضد موسى – عليه السلام – واتباعه، هو لا يعدوا أن يكون – في أحسن حالاته – نوبات من الجنون، وضرب من ضروب الهستيريا، تنتاب صاحبها، وهي قد تشيد صروحًا جديدة للقسوة، وتشمخ لها رموز جديدة، بين الفينة والفينة؛ لكنها متى ظهرت فهي دليل على أن صاحبها بات يفقد وعيه، والإحساس بكينونته الحقيقية، وتسيطر عليه رؤيا التشتت، وتخلي أصحابه عنه. وهذه هي دقات نواقيس الخطر – والتي يخافها الطاغية – وهي المؤذنة – بإذن الله عز وجل – بذهاب دولته وملكه، وزوال سطوته وظلمه، إلى مزبلة التاريخ، ومن غير رجعة[3].
الوقفة التاسعة:
أنه – أي: فرعون – قد جمع في قوله هذا إلى عناده واستبداده بالرأي – والعزوف عن مذهب الشورى، والرغبة عن نصائح أهل الحل والعقد – داهية دهياء، وطامة عمياء: وهي حصر الرشاد في قوله، والحق في طريقته وسبيله، فسيطرت حظوظ النفس كلها عليه، فحصر ذلك كله، في فلكه وأفقه، على حد المثل العامي القائل: عنزة ولو طارت.
ولقد أضحى هذا القول – أعني: قول فرعون – مذهبً فرعونيًا خبيثًا، التصقت شهرته به. وأصبح شعارًا يضرب به المثل لكل دكتاتوري ظالم مستبد، ومتغطرس فاشل، فعوقب بنقيض قصده، والجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان، وعلى نفسها براقش جنت.
الوقفة العاشرة:
أنه ما درى الطاغية أن ما قاله أبعد ما يكون عن طريق الحق والخير، نابع عن شدة الحسد، والتيه والهوى؛ ولذلك: ﴿ أَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى ﴾، وأنه: قول ليس بسديد، ونصح ليس بصالح ولا حميد، والنتيجة الحتمية كانت: ﴿ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ﴾ [هود: 96]، فالرشد كل الرشد في عبادة الله – عز وجل – واتباع أنبيائه – عليهم السلام – والعاقبة لأهل التوحيد. ولذلك كانت آراءهم – أعني الطغاة – وأمثالهم وأقوالهم المغرورة، مذعورة مطمورة، فالحذر الحذر منهم. ولأمثالهم نقول:
عليكَ بأدنى الخطْبِ إنْ أنت نِلْتَهُ وأَقْصِرْ فلا يَذْهَبْ بك التِّيهُ مَذْهَبَا
الوقفة الحادية عشر:
أنه عمد إلى تسمية الأشياء بغير مسمياتها الحقيقية، قاصدًا من ذلك: التعمية والتلبيس، والإضلال والتدليس، وهذا مذهب خبيث خسيس، كثيرًا ما يفلح مع الهمج الرعاع، أتباع كل ناعق، الذين لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق[4]. وقديمًا قيل: من استرعى الذئب فقد ظلم. وقال من ابتلي بهم قديمًا:
فلو لبس الحمار ثياب خز لقال الناس: يا له من حمار
ولن يعدم أن يجدهم، أو أن يصنع كثيرًا من الشخصيات على هذه الشاكلة، بخطاباته تلك، لكن السؤال المهم هنا: هو ما الذي سيجنيه أولئك التابعين له؟!
والجواب بداهة: لا شيء وربي غير الحسرة؛ لذلك تعالوا لنرى كيف تتعاظم عليهم الحسرة من وجوه:
أولها: أن قول فرعون هذا كان منه: تجهيلاً لمتبعيه، واستخفافًا بهم، ليس إلا؛ ليطيعوه قال الله – عز وجل -: ﴿ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ﴾ [الزخرف: 54].
وثانيًا: أنه بسبب مواقفهم؛ استحقوا ما وصفهم الله – عز وجل – ووصمهم به، حيث قال – عز وجل -: ﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ﴾ [الزخرف: 54].
وثالثًا: أنه كما كان قائدهم في الدنيا وأطاعوه على كفره وظلمه واستبداده، كانوا تبعًا له في الأخرة كما قال الله – عز وجل-: ﴿ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾. وشتان بين من كان يقدمهم الأنبياء والصالحين، وبين من يقدمهم الأغبياء الوثنيين.
ورابعًا: أنهم لما ﴿ اتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ ﴾ لا جرم أنهم استحقوا ما توعدهم به الله – عز وجل: ﴿ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ وَأُتْبِعُواْ فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ ﴾. [هود: 99].
فانظر إلى ما أقحمهم فيه، وأي حسرة ستلحق بهم. نعوذ بالله من الجهل والتبعية، والهوى والعصبية.
وهنا لا ننسى أن ننوه أنه ومع اغترار قومه بقوله، إلا أن هذا لم ينطلي أبدًا على من رزقه الله – عز وجل – فهمًا وعلمًا، وعقلًا وعملاً؛ كمؤمن آل فرعون مثلاً.
الوقفة الثانية عشر:
أن هذه السياسة، سياسة: ﴿ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى ﴾، في كثير منها، بل دائمًا ودومًا ما تقوم على الكذب فهو الأساس الذي تنبني عليه، وتقوم به، وهو – أي: الكذب – كما نرى ما بنى فرعون عليه سياسته ونظامه، وقد ظهر هذا جليًا من خلال أقواله وأفعاله، بل وحتى من خلال شخصيته.
أليس هو من أتى – عليه من الله ما يستحق – وجاء بأكبر كذبة وأعظم فرية عرفها العالم؟! أليس هو من ادعى كذبًا ومينًا أنّه الرب الأعلى؟! وأليس هو في أحد مؤتمراته المشومة يعلن وبكل صفاقة وجه، وقلة حياء: أنه لم يعلم لقومه إلهًا غير نفسه؟!
لقد كان الكذب – كما هو ظاهر – أحد وسائل فرعون؛ لتمرير مخططاته التعسفية، وقرارته السادية، وسياسته القمعية، بل وهي هي الوسيلة التي استخدمها فرعون في مواجهته لموسى – عليه السلام.
إن لك أن تتسأل – أنت أخي القارئ وأنت أختي القارئة – ما الذي يملكه الطغاة لنشر سياسة القمع؟! وما هي الأدوات التي قد تساعدهم في ذلك؟! وكيف يستطيعون نشر مثل هذه السياسة وغيرها، مما يصعب فطرتًا وعقلًا وعرفًا إمرارها أو تمريرها؟! وماذا يملكون تجاه ركائب وخيول الحجة والبرهان؟
والجواب – باختصار شديد -: إن أحد أهم هذه الأمور هو: الكذب ولا شيء غير الكذب، والعجيب أنه في كل هذا، ومع كل هذا، كان فرعون – كغيره – يعلم يقينًا أنه كاذب، ويبطن هذا في قلبه، ويخفيه في صدره، ويظهر خلافه، بل والله لقد كان مستشعرًا للخوف الشديد من جهة موسى – عليه السلام، – وهذا يدل على ما ذكرنا سابقًا – ولما جاء به من توحيد الله – عز وجل – ألا ترى أن الله – عز وجل – أبى إلا أن يظهر ما يخفيه على فلتات لسانه حين قال: ﴿ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ﴾؛ ولذلك كانت النتيجة أنه لم يستشر أحدًا، فيما أقدم عليه؛ لأنه قد أعد الهدف مسبقًا، وكان إعداده له؛ بسبب خوفه من موسى – عليه السلام.
وهذا – أقصد معرفة فرعون أنه كاذب وأنه يظهر خلافه – الفعل من موسى، يذكرني بما وقع بين مسيلمة الكذاب، وعمرو بن العاص[5] – رضي الله عنهما -:" أنه – أي عمرو – وفد على مسيلمة الكذاب قبل أن يسلم، فقال له مسيلمة: ماذا أنزل على صاحبكم بمكة في هذا الحين؟ فقال له عمرو: لقد أنزل عليه سورة وجيزة بليغة. فقال: وما هي؟! فقال: ﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ﴾ [العصر: 1-3] السورة. ففكر – مسيلمة – ساعة ثم رفع رأسه، فقال: ولقد أنزل علي مثلها، فقال عمرو بن العاص – رضي الله عنه -: وما هو؟ فقال: يا وبر يا وبر، إنما أنت أذنان وصدر، وسائرك حقر فقر. ثم قال: كيف ترى يا عمرو؟ فقال له عمرو – وهنا الشاهد -: والله إنك لتعلم، أني لأعلم، أنك تعلم أنك تكذب"[6].
الوقفة الثالثة عشر:
أن الدكتاتوري فرعون صاحب سياسة: ﴿ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى ﴾ بين حقيقة ما يحرك ضغائن الطغاة والدكتاتوريين، ويظهر حسدهم، وغلهم وحنقهم، ألا وهو ظهور الحق – وقارن بما سبق -، وما ذلك إلا لكراهيتهم له ونفورهم من تمكنه، ومن ثم تطبيقه. وأنهم على إثر هذا تمامًا يتخذون مواقفهم تلك – بسرعة وبصرامه -. بصرف النظر وقطعه، عن طبيعة ذلك الموقف وحقيقته. وهم لن يجدوا في أنفسهم حرجًا من سلوك أي سبيل في سبيل ألا يكون ذلك – كما نبهنا سابقًا – والمهم عندهم ألا يرفع للحق راية، ولا يعلو له لواء؛ ولذلك يكون منهم هذا التصرف السادي الجبان. وقديمًا قيل: هيبة الزلل تورث حصرًا، وهيبة العاقبة جبنًا، ومن كذب فليراجع التاريخ، ولينظر مانحن فيه اليوم!!!
فائدة ماتعة زائدة:
قال ابن القيم – رحمه الله – وهو يتحدث عن النحل: "ولما كانت النحل من أنفع الحيوان وأبركه – قد خصت من وحي الرب تعالى وهدايته لما لم يشركها فيه غيرها، وكان الخارج من بطونها: مادة الشفاء من الأسقام، والنور الذي يضيء في الظلام؛ بمنزلة الهداة من الأنام – كان أكثر الحيوان أعداء[7]، وكان أعداؤها من أقل الحيوان منفعة وبركة، وهذه سنة الله في خلقه وهو العزيز الحكيم"[8].
فبالله عليك إذا كان هذا في النحل، فكيف بمن جاء وبعث بالوحي، الذي به حياة الأديان والأبدان، وعليه وبه قيام الأمر كله، وكيف بورثتهم وأتباعهم، والقائمين بأمر الدين، من بعدهم على منهجهم ومنهاجهم؟!! وأترك الإجابة لكم ولمخيلاتكم أيه القراء الكرام!
وليعلم أنه متى رأيت أنت أخي المسلم، وأنت أختي المسلمة – في كل زمان ومكان – جحافل هذه السياسة: سياسة: ﴿ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى ﴾ قد أقبلت إليك، وسيوفها قد سلت عليك، ونبالها قد وجهت إليك، فاعلم أنك على حق يخشون من ظهوره وانتشاره، وشيوعه وهيجانه، فاثبت فإن النصر حليفك، وهو منك قريب، وليكن كلام ابن القيم – رحمه الله -، وموقف موسى – عليه السلام – منك على بال.
الوقفة الرابعة عشر:
أنه بين – أيضًا – منهج أهل سياسة: ﴿ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى ﴾ مع اتباعهم: أنهم يعمدون إلى إكراههم على ما يعتقدون، ويفرضونه عليهم فرضًا، ويلزمونهم بالأخذ به عنوة وبقوة – لا عن اقتناع – وإن كان الذي يعتقدون أو يرون، لا تستسيغه الفطر ولا تقبله العقول، بل ربما عمدوا مع ذلك كله، إلى ابتكار الحيل، لكبت الحريات، وتضييق الخناق عليها، وفرض المعتقدات الفاسدة، ورسوم الوثنية الكافرة.
الوقفة الخامسة عشر: أن حجة فرعون – في قتل موسى – كانت: ﴿ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ ﴾[9] [غافر:26]. وهذا مما يعظم به الأمر، ويبلغ معه السيل الزبى. وهذه والله هي ألفاظ الجبابرة المتغطرسين؛ وكلمات القساة المتكبرين، ولغة الطغاة المكذبين؛ لإنفاذ أوامرهم، وهي إحدى عباراتهم التي مُلئت من مثلها قواميسهم، وهم بها ينصبون لمن خالفهم الحبائل، ويبغون لهم الغوائل، ويرمون عن قوس واحدة، هي قوس رمي أهل الحق بالتهم الباطلة جزافًا، ودون حرج، بل يزيد العجب ولا يكاد ينقضي إذا علمت أنهم يرمون أهل الحق، بما هو فيهم من الباطل! وهذا هو منطق المعادين لله – عز وجل – ولدينه في كل مكان وزمان، ولا ندري ﴿ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ﴾ [الذريات: 53]، ووالله لكأنّما لَقَّن بعضُهم بعضًا ﴿ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾ [البقرة:118].
الوقفة السادسة عشر:
ان قوله هذا هو قمة التهارج والتهريج، والسفه والتيه، فانظر كيف زعم عدو الله – قاتله الله – أنه واعظ ومذكر، فقبحه الله من واعظ ومذكر. إذ كيف يصبح فرعون واعظًا ومذكرًا؟!! و "هل هناك أطرف من أن يقول فرعون الضال [الوثني]، عن موسى – عليه السلام – الرسول الموحى إليه من الله – عز وجل – تلك المقالة؟! أوليست هي بعينها كلمة كل طاغية مفسد، عن كل داعية مصلح؟ أليست هي كلمة الباطل الكالح في وجه الحق الجميل؟ أليست هي بعينها كلمة الخداع الخبيث، لإثارة الشبهات في وجه الإيمان الهادئ؟
إنه منطق واحد يتكرر كلما التقى الحق والباطل، والإيمان والكفر، والصلاح والطغيان، على توالي الزمان واختلاف المكان، والقصة قديمة تعرض بين الحين والحين"[10].
وهذا والله منطق الطغيان الغليظ، كلما أعوزته الحجة، وخذله البرهان، وركب موجة الفساد، عنده وعند أمثاله. وهذا يذكرني بما فعله أبو جهل، حين قنت على رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – يوم التقى الجمعان، وقال: " اللهم أقطعنا للرحم، وآتانا بما لا نعرفه، فأحنه الغداة! "[11]- يدعو – زعم – على فاعل هذا!
(((((((((((((((((((((((((((((((((((((((((((((((((( (((((((()))))))))))))))))))))))))))))))))))))))))) ))))))))))))))))
الوقفة السابعة عشر:
أنه من هذه المقولة اشتق كل ظالم وطاغية ومستبد شعاراته فمن مقل ومستكثر، فهم منها ينهلون، وإليها راجعون، فعلى أصحاب هذا المنهج، وهذه الدعوات، أن يستفيقوا من سباتهم، ويصحوا من رقدتهم، وينظروا إلى حقيقة الأمر، ويحسنوا التقويم والتقدير.
وهنا نهيب بكل من رضي لنفسه أن يكون فرعونيًا، ومبدأه: ﴿ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى ﴾، وشعاره: ﴿ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ﴾ [غافر: 29]، مع أن الظلم ديدنه، والسيطرة منهجه، من يحب أن يفنى الناس في شخصه، ولا يشاور ولا يقبل النصح. من يسعى إلى الحجٌر على العقول والآراء، وتطبيق هذه السياسة الفرعونية، والفاشية التي لا تقبل بالآخر، ولا تعيره انتباه، بل تحقره وتضطهده ، ومن يستعمل لفرض رأيه، وإمرار فعله كافة الأساليب الوحشية؛ لتكميم الأفواه، ومصادرة الحريات، وقمع الأخيار والمصلحين، ويبرر ذلك ومواقفه أمام الغير: ﴿ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ﴾. ما أشبه دعواهم هذه بدعوى فرعون، وما أنتن هذا الصنبور المنبتر، والقول الأبتر!
إلى كل هؤلاء أقول: إنه وإن كان هذا المنهج يستهويكم، فعما قريب سيضر ويسحق، فطوبى لمن كانت له في غيره عبرة، ومنها اعتبر.
^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^ ^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^
الوقفة الثامنة عشر:
أن الشعارات يجيدها الجميع، لكن العبرة دومًا بالحقائق والبينات، ألسنا نرى أن فرعون قال: ﴿ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ﴾ [غافر: 29]، وأن مؤمن آل فرعون قال: ﴿ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ ﴾. فبأي شيء يعرف المحق منهما من المبطل؟![12] وهل يكون هذا إلا بالحقائق والعمل، والبينات والتطبيق، والنظر في تاريخه السابق، وما يقوم به في اللاحق، ومعرفة موقعه من نصوص الوحيين قبولًا وردًا، وعلمًا وجهلًا، وعملًا وتركًا؟!
)))))))))))))))))))))))))))))))))))))))))))))))))) ))))))(((((((((((((((((((((((((((((((((((((((((((( (((((((((
الوقفة التاسعة عشر-
وأختم هذه الوقفات بها -: أن هذه المقولة مقدماتها هفوة، وأواخرها زندقة، فأمّا كونها هفوة فلأننا لم نعهد – أبدًا – أحدًا من الخلفاء الأوفياء، وقادة الأمة العظماء، والذين شيدوا معالم الدين ورفعوا راياته، قال مثل هذه القولة، أو فعل مثل هذه الفعلة.
وأما كونها زندقة؛ فلأنها تجر إلى إطراح كلام أهل العلم والحل والعقد، وواجهة الدين وحملته، والمفكرين والأدباء، والمثقفين والكبراء، بل في أحيان كثيرة إلى معاداتهم وحربهم، وما معهم من الحق وما يحملون من البينات، ولا شك أن في هذا – كما هو ظاهر – إسقاط للشرائع، وتعطيل الأحكام، على المسلمين العوام.
خ
تامًا:
إن التمكن والتمكين لا يكون ولن يكون بالبطش والجبروت، والهيمنة والسيطرة، ولا يدرك ولن يدرك بالاستبداد والقهر والقمع، ورفع سياسة: ﴿ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى ﴾، ولن يصل إليه أحد بتكميم الأفواه، ومصادرة الآراء؛ ولذلك كان هذا الفعل من أعظم ما يكون جرمًا، وأشد ما يكون تلبيسًا وغشًا، وقد جاء في الحديث عن رسولنا محمد – صلى الله عليه وآله وسلم – أنه قال: ((ما من عبد يسترعيه الله رعية [وفي رواية: فلم يحطها بنصحه ]يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة [وفي رواية: لم يجد رائحة الجنة]"[13]، وفي لفظ: "ما من أمير يلي أمر المسلمين ثم لا يجهد لهم، وينصح إلا لم يدخل معهم الجنة"[14].
************************************************** ************************
نصيحة:
كما أننا نغتنم هذه الوقفات لنقدم نصيحة، نهيب – فيها وبها – بالمتبوعين الذين رضوا بسياسة التجهيل المفروضة من الظلمة، وخضعوا لأهلها فكانوا أحد أدواتهم وآلاتهم، التي يستخدمونها كيف شاءوا، ومتى شاءوا، سعوا من خلالهم، لنشر أهدافهم ومخططاتهم تحت الشعار المريض البائس: ﴿ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى ﴾. والنتيجة الحتمية كانت وما زالت وستكون: أنهم سيتخرجون من تلك المدرسة العقيمة بفهم سطحي، وعقول لا تعدوا ولن تعدوا أن تكون – كما أشرنا في مقدمة وقفاتنا – نسخ مكررة لا تنهض بالتبعات، ولا تقوم بالواجبات، ولا تنصر المظلوم، ولا تبني حضارة، وهم مع ذلك عرضة للاستخفاف والاستنزاف.
ونقدم لهم في هذه الخاتمة وصية لهم، ألا وهي قول عبدالله بن مسعود – رضي الله عنه – يوم قال: "لا يكونن أحدكم إمعة، قالوا: وما الإمعة يا أبا عبدالرحمن؟! قال: يقول: أنا مع الناس، إن اهتدوا اهتديت، وإن ضلوا ضللت، ألا ليوطنن أحدكم نفسه على أن كفر الناس أن لا يكفر"[15]، وقال – أيضًا -: "اغد عالمًا، أو متعلمًا، ولا تغد إمعة بين ذلك"[16]، ودومًا ما أتذكر هنا كلمة شيخنا العلامة مقبل الوادعي – رحمه الله – وهو يقول: "إذا أردتم أن يرفعكم الله فلا تكونوا إمّعة، فإن الذي يكون إمّعة لا يزال منهزمًا". أو كما قال – رحمه الله.
وقديمًا قال أمرؤ القيس:
ولست بذي رثية إمر إذا قيد مستكرهًا أصحبا
والعجيب أننا كنا ولا نزال نرى من هؤلاء الجهلة من يدعي للعقل التقديس، ولكن ما يلبث إلا ويخلطه بالتدنيس، فيقع في حيرة وتلبيس، ويلبس الحق لباس الباطل للتدليس، وهل هذه إلا سياسة إبليس؟!
إن الصراع الحاد بين الخير والشر، وبين دعوة الإصلاح ومعارضيها أمر قديم، ولكن مهما كانت المقاومة شديدة، فإنه لا يأس ولا قنوط، فقد يهتدي بعض الراشدين العقلاء، ويظل أولو النفوذ والسلطة والمصلحة على غيهم وضلالهم وتمسكهم بمواقفهم، على الرغم من معرفة الحق وقوته، وضعف الباطل وجهالته، وهذا موقف من هذه المواقف التي تتصادم فيها دعوة المصلحين مع مصالح المتسلطين، وهو هنا موقف فرعون، من رسالة موسى – عليه السّلام.
تذكير:
كما نُذكر أن حجة فرعون كانت: ﴿ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ ﴾ وهذا والله هو ديدن أهل الضلال والإلحاد، الذين لا يكتفون بنشر ضلالهم فحسب، حتى يضيفون إليه محاربة أولياء الله – عز وجل – وأهل الهدى، ويستدلون دومًا بهذه المقولة الفرعونية النشأة، فجمعوا إلى حشف سوء كيله[17]، وزادوا بهذا الطين بلة.
يدني الحشيف عليها كي يواريها ونفسها وهو للأطمار لباس
وانظر إلى كل عصر ومصر، لترى من هذه الفتن الفَواقر، ما تشيب له الذوائب، وتشد منه السبائب، وتدع الحليم حيرانًا.
ولك أن تتسأل لتتأكد: ماذا كان جواب قوم لوط لما قال لهم لوط – عليه السلام -:﴿ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ ﴾ [الأعراف:80]؟!
كان جوابهم كما حكاه الله – عز وجل -: ﴿ وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ﴾ [الأعراف:82]. فعابوهم بغير عيب، وذموهم بغير ذم، ورموهم بما هو فيهم، على حد قول المثل: رمتني بدائها وانسلَّتْ.
ثم يا ليت شعري هل أصبح الطهر والطهارة عيبًا، والعفة والاستقامة جريمة، ومبررًا لإخراج آل لوط من القرية؟ وذمهم بهذا؟!
إنه قمة التهكم والسخف، فلقد عاشوا في النجاسة وألفوها وألفتهم، ويشق عليهم مفارقتها، والخروج منها. فعجبًا ماذا تصنع السياسة الجاهلية سياسة: ﴿ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى ﴾ بأهلها! وكيف أقروا مع شركهم وكفرهم، أنهم هم الأخباث الأنجاس، وأن لوطًا – عليه السلام – وآله مطهرون من ذلك، باجتنابهم له.
ثم بماذا عوقب يوسف – عليه السلام – لعفته وطهارته؟ بدخول السجن.
ولماذا عوقب أصحاب الأخدود؟! وما هو السبب الذي من أجله أحرقهم الطغاة؟!
أليس من أجل ما بينه الله بقوله: ﴿ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴾. فما أنكروا عليهم ذنبًا إلا إيمانهم بالله، وتوحيدهم له جل في علاه، أما علموا فيهم عيبًا، ولا وجدوا لهم جُرمًا، إلا هذا؟!
لا يوجد شيء يحتمل أن يعاب به، أو ينقم عليهم منه، بوجه من الوجوه، لقد قلب هؤلاء الموازين، وخلطوا المعايير، وخالفوا الطبيعة السويّة، بهذه الأحكام الفاسدة العتية؛ والتي تدل إن دلت على فساد الطباع، وأيّ فساد بعد أن كرهوا ما يجب أنْ يُحب، وأحبوا ما يجب أن يكره؟!
وهؤلاء قوم شعيب يعيبون عليه بقولهم: ﴿ إِنَّكَ لأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ﴾ [هود : 87].
وقوم نوح: ﴿ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ ﴾.
وقوم إبراهيم: ﴿ قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ ﴾ [الأنبياء:68].
وهكذا أهل الكتاب: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ ﴾ [المائدة : 59]، إلخ هذه السلسلة العاتية الطاغية، والتي تعيب الغير على حد قول نابغة ذبيان:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
وقول الآخر:
فما بك في من عيب فإني جبان الكلب مهزول الفصيل
وهكذا هي سلسلة طويلة لا تنتهي، وسيناريوا واحد لا يتغير! لكن الله لهم بالمرصاد: ﴿ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [الأنفال: 30].
بقلم أ<<بكر البعداني.
ّّّّّّّّّّّّّّّ<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<< <<>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>
[1] (ص: 334).
[2] أحد أزلام الحجاج وولاته على الري.
[3] كما انتابت هذه النوبات الجنونية العيديون ففعلوا ما فعلوا، واخذوا ما اخذوا من سياسة فرعون، ثم كان ماذا؟! ذهبوا إلى غير رجعة. وانظر شيئًا منها في: مدرسة الحديث في القيروان.
[4] وهذا جزء من وصية طويلة للإمام علي أوصاها لكميل، وهي نافعة ماتعة. رواها أبو نعيم في الحلية (1/ 79-80)، والخطيب في الفقيه والمتفقه (1/ 49-50)، والنهرواني في الجليس الصالح ( 3/331)، والشجري في أماليه (1/ 66)، والمزي في تهذيب الكمال (3/1150)، والذهبي في تذكرة الحفاظ (1/11)، وانظر شرحًا لها في: مفتاح دار السعادة (1/ 403-405). وقد أفردتها في مقال لي بعنوان: من وصايا الإمام علي (رضي الله عنه)
[5] قبل أن يسلم ويحسن إسلامه – رضي الله عنهما.
[6] تفسير القرآن العظيم (1/82).
[7] وقع في نسختي: " أعداؤها "، ولعل الصواب ما أثبتناه، وهو ما يناسب السياق ما أثبتناه. والله أعلم.
[8] شفاء العليل (ص: 147). وانظر للفائدة: مقال لي بعنوان: من عجيب هداية الله (عز وجل) للحيوانات والحشرات.
[9] وقرأ بعضهم: "يَظْهَر في الأرض الفسادُ" بالضم. تفسير القرآن العظيم(4/94).
[10] في ظلال القرآن (6/254). بتصرف وزيادة يسيرة.
[11] أخرجه أحمد (5/431)، والحاكم (2/ 357) وقال: " هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ". وقال الذهبي " على شرط البخاري ومسلم ".
[12] انظر للفائدة: الأحكام (1/27) لابن حزم.
[13] أخرجه البخاري رقم: (6731 ) ومسلم رقم: (227)، (21). عن معقل بن يسار المزني – رضي الله عنه.
[14] أخرجه مسلم رقم: (142).
[15] أخرجه أبو نعيم في الحلية (1/137)، وله شواهد وألفاظ أخر، وهو صحيح موقوف، وقد صححه الألباني في المشكاة (3/112)، وروي مرفوع عن حذيفة – رضي الله عنه – عند الترمذي رقم: (2017)، ولا يصح. والله أعلم.
[16] أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (1/9)، وصححه ابن القيم في إعلام الموقعين (2/268).
[17] هذا مثل يضرب لمن يظلم من جهتين.
*جنات عدن* *جنات عدن* 217786_12.gif سوبر فتكات Fatakat 217786 ارض الله الواسعة – أمُــ الْـدُنْــيْــا {مِــصْــرْ}