نُلقِي رحالنا في هذه الحلقة على باب بيت من بيوت النبي، ونلتقي بسيدة من أمهات المؤمنين، هي السيدة أم حبيبة بنت أبي سفيان، وتُدعَى رملة بنت أبي سفيان، زوج النبي صلى الله عليه وسلم.. ولهذه السيدة مأساة كبيرة، نتعلم منها كيف يكون الصبر على البلاء، وكيف تكون البشرى لمن صبر وشكر..
السيدة حبيبة.. ورحلة المحن
عندما اشتد الأذى على المسلمين من المشركين بمكة، وأذِن النبي عليه الصلاة والسلام للمسلمين المستضعفين بالهجرة فراراً بدينهم إلى الحبشة, هاجرت أم حبيبة مع زوجها عبيد الله، مع من هاجر من الصحابة إلى الحبشة، وتحمَّلت هذه الزوجة الكثير مما تحمله الصحابة من أجل إسلامهم.
تحملت أذى قومها، وتحملت هَجر أهلِها، والغربة عن وطنها وديارها، كل ذلك لتحيا حياة الإيمان والإسلام بعيداً عن الشرك والعصيان، وحينما استقرت في الحبشة آمنة مطمئنة, فاجأتها محنة شديدة وعصيبة، تلك المحنة هي ردَّة زوجِها عن الإسلام، وتنصّره بعد أن هداه الله للإسلام، إنها محنة كبيرة، الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، والنجاشي أعلن إسلامه، وأسلم كبار البطارقة، وهذه زوجُها تنصَّر، وشرِب الخمر وعاقرها حتى مات من شربها، وهل هناك محنة أقسى من هذه المحنة؟
قصة زواجها من النبي
أخرج ابن سعد عن ابن عمر بن سعيد الأموي قال: قالت أم حبيبة: "رأيت في المنام كأن زوجي عبيد الله بأسوأ صورة، ففزعت؛ فأصبحت فإذا به قد ترك دينه، فأخبرتُه بالمنام فلم يحفَل به، وأكبّ على الخمر حتى مات من شربها، فأتاني آتٍ في نومي, فقال: يا أم المؤمنين، فما هو إلا أن انقضت عدتي، فما شعُرتُ إلا برسول النجاشي يستأذن لي، فإذا هي جارية يقال لها أبرهة, فقالت: "إن الملك يقول لك: وكِّلِي من يزوّجك؟ فأرسلتُ إلى خالد بن سعيد بن العاص بن أمية فوكَّلتُه، فأعطيتُ على بشارته سوارين من فضة، فلما كان العشي, أمر النجاشي جعفر بن أبي طالب, ومن هناك من المسلمين فحضروا، وخطب النجاشي، فحمد الله تعالى، وأثنى عليه، وتشهَّد، ثم قال: أما بعد؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إليّ أن أزوجه أم حبيبة؛ فأجبت، وقد أصدقتُها عنه أربعمائة دينار، ثم سكب الدنانير.
ثم خطب خالد بن سعيد, فقال: قد أجبتُ إلى ما دعا إليه رسول الله, وزوّجتُه أمَ حبيبة.. وقبض الدنانير، وصنع لهم النجاشي طعاماً. فلما بلغ أبا سفيان والدها -وكان مشركاً- أن النبي صلى الله عليه وسلم نكح ابنته, قال "هو الفحل لا يُجَدع أنفه"؛ أي قال عن النبي أنه الكفء الكريم الذي لا يُعاب ولا يردّ.
متى عادت أم حبيبة إلى وطنها, وكيف استقبل النبي المهاجرين بعد طول هذه الغربة؟
عادت هذه المهاجرة عقب فتح النبي لخيبر، أي أن هؤلاء الصحابة مكثوا في الحبشة ثلاثة عشر عاماً؛ يصلّون، ويصومون، ويعبدون الله عز وجل، فكم هي الحوادث صعبة, أن يبعد إنسان عن أهله ثلاثة عشر عاماً، ولم يكن ذنبه إلا أن يقول: ربي الله.
لقد عادوا مع جعفر بن أبي طالب ومن معه، وقد سرّ النبي عليه الصلاة والسلام أيما سرور بمجيء هؤلاء الصحابة بعد غياب طويل، ومعهم الزوجة الصابرة, الطاهرة الكريمة، إنهم خرجوا من مكة فارين بدينهم من الشرك، واليوم يعودون، وأمرُ الإسلام يعلو، وسلطانه يمتد، فلا خوف من ظلم، ولا إرهاب.. وعندما حلّوا بالمدينة استقبلهم النبي عليه الصلاة والسلام مسروراً مبتهجًا، وهو يقول: والله لا أدري بأيِّهما أسرّ؛ بفتح خيبر، أم بقدوم جعفر؟
استقبال النبي لأم حبيبة
ما إن وصلت أم حبيبة -رضوان الله عليها- إلى المدينة بعد تلك الغربة الطويلة المريرة, حتى استقبلها النبي عليه الصلاة والسلام بالسرور والبهجة، وأنزلها إحدى حجراته بجوار زوجاته الأخريات، واحتفل نساء المدينة بدخول أم حبيبة بنت سفيان بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهنَّ يحملن إليها التحيات، والتهاني، والأمنيات بهذا الزواج المبارك، وقد أولَم خالها عثمان بن عفان وليمة حافلة نحر فيها الذبائح، وأطعم الناس اللحم؛ فرحًا وبهجة بهذا الزواج الميمون، واستقبل أمهات المؤمنين هذه الشريكة الكريمة بالإكرام والترحاب، ومن بينهن صفية العروس الجديدة التي لم يمضِ على عُرسِها أيام معدودات؛ وقد أبدت السيدة عائشة استعداداً لاستقبال الزوجة الجديدة التي لم تُثِر فيها حفيظة الغيرة حين رأتها، وقد قاربت سنّ الأربعين، لتعيش أم حبيبة بجوار الزوجات الأخريات بكل سعادة وأمان.
أم حبيبة وموقفها من أبيها
لقد حضر أبو سفيان والد أم حبيبة المدينة يطلب من النبي عليه الصلاة والسلام أن يمد في أجل الهدنة التي تمت المصالحة عليها في الحديبية, فيأبى عليه النبي هذا الطلب، وأراد أبو سفيان أن يستعين على تحقيق الطلب بابنته زوجة النبي، فدخل دار أم حبيبة، وفوجئت به يدخل بيتها، وما رأته من خمسة عشر عاماً، ولم تكن قد رأته منذ أن هاجرت إلى الحبشة، فلاقته بالحيرة، فلا تدري أترده لكونه مشركاً، أم تستقبله لكونه أباً؟ وأدرك أبو سفيان ما تعانيه ابنته، فأعفاها من أن تأذن له بالجلوس، وتقدم من تلقاء نفسه, ليجلس على فراش رسول الله، فما راعه إلا وابنته تجذب الفراش من تحته؛ لئلا يجلس عليه، فسألها بدهشة: يا بنية أرغبتِ بهذا الفراش عني أم بي عنه؟ فقالت: بل هو فراش رسول الله، وأنت امرؤ نجس مشرك، فقال: يا بنية, لقد أصابك بعدي شرّ، وخرج من بيتها خائب الرجاء.
أم حبيبة وفتح مكة
الحقيقة أن أم حبيبة لما نقضت قريش عهدها (صلح الحديبية) مع رسول الله, لم يكن من أم حبيبة لأبيها وأخيها أي عون أو مساعدة, إلا أنها تدعو الله بالهداية لأبيها وقومها، ولعل نساء النبي رضي الله عنهن راقبنها، وهي في موقفها ذاك الحرج، ترى جيش رسول الله يتأهب, ليأخذ قومها على غرّة، ومكة لا تزال في حيرة من الأمر، وأبوها يحمل إلى قريش خيبة الرجاء، والحقيقة هذا موقف صعب، أبوها وقومها وزوجها النبي، وكما يقول كتاب السيرة: لا تراهم أغلى عليها من المسلمين، وهي التي هجرت أهلها وقومها ثلاثة عشر عاماً في الحبشة فرارًا بدينها من أذاهم.
ولما تم فتح مكة، وطارت البشرى إلى أهل المدينة بنصر الله والفتح، وما تسامع الناس بما كان من لقاء النبي بأبي سفيان، وقد أجاره العباس، وكلام النبي صلى الله عليه وسلم معه, حيث قال: ويحك يا أبا سفيان, ألم يأنِ لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله؟ قال أبو سفيان: بأبي أنت وأمي؛ ما أحلمك، وما أكرمك، وما أوصلك، وما أحكمك، والله إني لظننت أنه لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى شيئاً عنّا.
فقال عليه الصلاة والسلام: ويحك يا أبا سفيان, أم يأنِ لك أن تعلم أني رسول الله؟ قال أبو سفيان: بأبي أنت وأمي؛ ما أحلمك، وما أكرمك، وما أوصلك، أما هذه فو الله إنه لفي النفس منها حتى الآن شيء، فزجره العباس على مقالته هذه زجراً قاسياً، وقال: ما لبث أبو سفيان إلا أن أعلن إسلامه، أسلم في وقت متأخر جداً بعد أن حارب النبي عشرين عاماً، وبعد أن كان لا بدّ له أن يسلم فأسلم.
ثم التمس العباس من النبي, أن يكرم الرجل بشيء يرضي كبرياءه، فأجابه النبي عليه الصلاة والسلام: نعم، وقال: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل بيت الله الحرام فهو آمن، هذا كرمه.
طارت أصداء هذا الحدث الجلل المبارك, حتى بلغ سمع أم حبيبة، ففرحتْ فرحاً شديداً، وشكرت الله تعالى أن حقق لها أمنيتها ورجاءها في إسلام أبيها وقومها, وكانت -رضي الله عنها- قد رأت أنه قد أزيح عن كاهلها عبء الحزن على عدم إسلام أبيها وقومها، وقد اعتبر يوم الفتح يوم فتح لفرحتها، وسرورها، وسعادتها, بنجاة أبيها من الخلود في النار.
وفاتها
توفّيت -رضي الله عنها- سنة 44 بعد الهجرة، ودُفِنت في البقيع، وكانت قد دعت أم المؤمنين عائشة قبل وفاتها، فقالت: قد يكون بيننا وبين الضرائر، فغفر لي ولك ما كان من ذلك.. فقالت عائشة: غفر الله لك ذلك كله وتجاوز وحلّك من ذلك، فقالت أم حبيبة: سررتِني سرّك الله".
رضي الله عن أمهات المؤمنين.. رضاء تاما، ونفعنا بهم آمين
تونة555 تونة555 295489_32.gif قلبى عليكى يابلدى …خابف Fatakat 295489 الجيزة – مصر